أزمة مصر الاقتصادية- بيع الأصول، ورهن المستقبل، وحوارات بلا جدوى.

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع11.15.2025
أزمة مصر الاقتصادية- بيع الأصول، ورهن المستقبل، وحوارات بلا جدوى.

في أرجاء مصر، لا يتبادل الناس حديثًا إلا عن شبح التضخم وارتفاع الأسعار المتزايد، الذي يمثل طوفانًا جارفًا يسيرُ بوتيرة متسارعة لا يمكن إيقافها. حتى أقطاب علم الاقتصاد وجدوا أنفسهم مكتوفي الأيدي أمام تعقيدات وأسرار الوضع الاقتصادي المتفاقم يومًا بعد يوم.

يتراءى للجميع أن الحلول واضحة، ولكن بمجرد الشروع في التنفيذ، تطفو على السطح إشكاليات لا حصر لها. فكلما حاولنا إصلاح جانب، انهار جانب آخر سريعًا. وكلمة السرّ المهيمنة دائمًا هي الدولار، حيث يترقب العديد من المراقبين أن يصل سعره إلى مستوى قياسي يبلغ 100 جنيه بحلول منتصف هذا العام.

وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية تعزو الإخفاقات الاقتصادية المتلاحقة إلى عوامل خارجية متتالية:(جائحة كوفيد-19، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وأخيرًا الصراع الدائر في غزة)، فإن السبب المحوري وراء هذا التدهور يكمن في حجم الدين الخارجي الهائل الذي يقارب 190 مليار دولار بعد إضافة 24.6 مليار دولار كفوائد مستحقة لعام 2024، بالإضافة إلى الاختلالات المزمنة في الميزان التجاري. هذه العوامل مجتمعة وضعت مصر في موقف عصيب يذكرنا إلى حد بعيد بعهد الخديوي إسماعيل (1863-1879) الذي أدت الديون الخارجية المتراكمة في عهده إلى إهدار جميع الإنجازات التي حققها.

الخيارات المطروحة التي طبقتها الدولة لم تسفر إلا عن مزيد من الانحدار الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، أدت الزيادة في أسعار الفائدة - التي كان الهدف منها هو جذب الاستثمارات الأجنبية وتقويض المضاربة في أسواق الدولار والذهب والعقارات - إلى تباطؤ غير مسبوق في الاستثمار المحلي، وإلى استفحال المضاربات بصورة أكبر.

كما أن المساعي الحثيثة لجمع الدولار من الأسواق المحلية ومن المصريين المقيمين في الخارج، من خلال رفع أسعار الفائدة على الودائع الدولارية إلى 7%، لم تحقق النتائج المرجوة، بل أثقلت كاهل الدولة بأعباء مالية إضافية، على غرار تلك الأعباء التي تكبدتها جراء طرح شهادات ادخارية بالجنيه المصري بعائد مرتفع وصل إلى 27% في منتصف شهر يناير/كانون الثاني.

إن استحواذ المؤسسات السيادية على السيطرة على القطاعين الخاص والعام، بذريعة إدارتها بكفاءة أعلى وإسناد المشروعات بالأمر المباشر، لم يأتِ بالنتائج المرجوة. فلم تتمكن هذه الشركات من تحقيق أداء متميز، ولم يلتزم المالكون الجدد بسداد الضرائب المستحقة، ولم يتمكنوا من المنافسة في السوق الحرة، مما ساهم في إضعاف القطاع الخاص المتبقي.

استمرت أزمة العملة في التعمق، ووصل معدل التضخم إلى مستويات فلكية بلغت 45٪ (ثم انخفض لاحقًا إلى 38٪)، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 70٪. ونتيجة لذلك، وبضغط من صندوق النقد الدولي، سعت الدولة إلى بيع بعض الشركات المملوكة لها إلى مستثمرين استراتيجيين (خليجيين على وجه الخصوص)، ولكن هذه المحاولة اصطدمت بعقبات جمة بسبب رغبة المشترين في الحصول على هذه الشركات بأقل الأسعار.

يظن الكثيرون أن إيجاد حلول اقتصادية في مصر أمر يسير، ولكن ما إن يبدأ التنفيذ حتى تظهر معضلات لا نهاية لها. فكلما أصلحنا موضعًا، تدهور آخر. وتبقى كلمة السر دائمًا هي الدولار، الذي تشير التوقعات إلى بلوغه مستوى 100 جنيه قبل حلول منتصف العام

مرحلة بيع عظام الدولة

بعد انتهاء مرحلة بيع أصول الدولة القيّمة، بدأ التفكير في التخلي عن الأصول الاستراتيجية، حيث تم طرح مشروع لبيع أراضٍ في سيناء، التي تمثل منطقة ذات حساسية أمنية بالغة. وعلى إثر ذلك، تم تعديل القانون رقم 143 لسنة 1981 لتسهيل تملك المستثمرين الأجانب لأراضيها.

لطالما كان بيع هذه الأراضي لغير المصريين من المحظورات، بل إن بيعها للمصريين من الأفراد والشركات كان مقيدًا باشتراطات مشددة. أما السكان الأصليون من بدو سيناء، فقد خرجوا من هذه المعادلة خالي الوفاض بعد معاناة طويلة للحصول على وثائق تثبت ملكيتهم لأراضيهم.

أخيرًا، صدرت وثيقة التوجهات الاقتصادية في يناير/كانون الثاني من هذا العام، والتي تتضمن دراسة خطط لتوريق نسبة من العائدات الدولارية تتراوح بين 20-25٪، مقابل طرح سندات للمستثمرين الدوليين بالعملة الأجنبية.

ورغم الغموض الذي يكتنف هذه الخطط، فإنها أثارت المخاوف بشأن مصير قناة السويس، نظرًا لأهميتها السياسية والاقتصادية والأمنية. ويعود ذلك إلى أن التوريق يستهدف الأصول الثابتة التي تدر دخلًا بالعملة الأجنبية، ولا يوجد في مصر في هذه الحالة ما ينطبق عليه هذا الوصف سوى قناة السويس.

إن خطط رهن قناة السويس مقابل الحصول على عملة أجنبية، وفقًا لهذا التفسير، تمثل إجراءً بالغ الخطورة، لأن الجهة التي سيتم رهن القناة لصالحها بموجب عقود التوريق، ستسيطر على هذا الأصل في حال عدم الوفاء بأقساط الدين وخدماته. وهذا السيناريو هو الأرجح في ظل الإخفاقات المتتالية الناجمة عن تنفيذ رؤى غير مدروسة من قبل غير المتخصصين الذين يملأون المؤسسات السيادية. وبذلك، فإن القناة التي ارتبطت في أذهان المصريين بالاستقلال الوطني، قد تصبح هي الأخرى عرضة للخطر.

حلول الحوار الوطني

في مواجهة هذا الوضع العصيب، لا يسعنا إلا أن نؤكد أن المحور الاقتصادي في "الحوار الوطني" قد أصدر في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، عقب سلسلة من الاجتماعات، عددًا من المقترحات الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، والتي تضمنت تصورات لمعالجة العجز، وتحديد التوجهات الحكومية فيما يتعلق بالاستثمار الخاص، ووضع آلية استثمار ميسرة في مختلف المجالات للمستثمرين المحليين والأجانب، والتوسع في إنشاء المناطق الحرة العامة والخاصة، وإنشاء منصة لإتاحة المعلومات لربط أصحاب الأعمال وتحديد احتياجاتهم.

كما تضمنت المقترحات جوانب مهمة تتناول أسباب تراجع الصناعة والزراعة، مثل تطوير المناطق الصناعية القائمة، وتحديث خريطة الاستثمار الصناعي، ورفع سقوف الحدود الائتمانية، ومراجعة الفجوات التصديرية بعد كل تغير في سعر الدولار، ودعم الزراعة التعاقدية وصناعة الأسمدة.

وشملت كذلك مقترحات لتطوير قطاع السياحة، الذي يعد ثاني أكبر مصدر للعملة الأجنبية، خاصة فيما يتعلق بضرورة رسم خريطة سياحية شاملة لمصر، وتفعيل حوافز للاستثمار السياحي بجميع أشكاله… إلخ.

تجدر الإشارة إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أكد في أكثر من مناسبة أن المقترحات الصادرة عن هذا "الحوار الوطني" سيتم تنفيذها دون تأخير، إلا أن الحكومة، وبعد مرور حوالي 5 أشهر على صدور تلك التوصيات، لم تولِها اهتمامًا يُذكر، بل قامت عوضًا عن ذلك بإصدار وثيقة توجهات اقتصادية، ودشنت في 16 يناير/كانون الثاني 2024 حوارًا جديدًا حولها، وكأننا ندور في حلقة مفرغة من الحوارات التي لا طائل منها، والتي تتحول في نهاية المطاف إلى مجرد "كلمات"، يعكس لسان حال صاحب القرار إزاءها المقولة: "أصدروا ما شئتم من مقترحات، وسنفعل نحن ما نراه مناسبًا".

إن المشكلة الأساسية للتضخم، بل المشكلة الكامنة وراء الاقتصاد المصري برمته، تتطلب إعادة النظر في الأولويات، والوقف الفوري للمشروعات التي أدت إلى الاقتراض الضخم، مثل مشاريع الطرق والمواصلات التي استهلكت وحدها ما يقارب تريليوني جنيه (50 مليار دولار)، ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع مدينة العلمين الجديدة، وغيرها.

ومن الضروري أيضًا اللجوء إلى سلة من العملات تجعل الدولار مجرد عملة اعتيادية، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحفيز الصادرات، والحد من الاستيراد غير الضروري، وترشيد الإنفاق الحكومي، وتفعيل الرقابة على جميع الصناديق والحسابات الموازية، واتخاذ جملة من التدابير لاستعادة ثقة المصريين المقيمين في الخارج في اقتصاد بلادهم، بما يجعلهم مصدرًا قويًا لتعزيزه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة